السبت، 9 يونيو 2012

مناجم الذهب المصرية






رغم طول المسافة بين الغردقة ومنجم «الفواخير»، لا يتسرب إليك الملل ولا يصيبك هم، سينتابك إحساس عام بالأمان، رغم غياب جميع أشكال الخدمات عن الطريق من إضاءة أو وحدات للإسعاف، حتى شبكات المحمول لا تعمل.. فهناك انفصال تام عن الحياة الإلكترونية، وما زاد دهشتنا احترام السيارات القادمة من الجانبين قواعد المرور، رغم أن الطريق فردى، وهناك الكثير من المقابلات، لكن كل طرف يهدئ السرعة عندما يجد قادماً من الاتجاه المقابل.


سريعاً وصلنا بعد مسافة نحو 90 كيلو متراً، وها نحن أمام جبل الذهب.. شاهق.. مترامى الأطراف، لا يبعد جانبه المطل على الطريق الأسفلتى سوى عدة أمتار، لا تسمح لك بنظرة خاطفة ترى بها كامل مساحة الجبل، ولابد من استدارة الرأس يمينا ويساراً لاستيعاب المساحة.


وعندما تعرف أن «الفراعنة» هم أول من استخرجوا الذهب من هذا المنجم العتيق، تشعر بأن أرواحهم مازالت موجودة فى المكان وأعينهم ترصد محاولات الأحفاد استكمال ما بدأه الأجداد.


«طريق الحجاج» هو الاسم الذى تُعرف به المسافة الممتدة بين قفط، التابعة لمحافظة قنا بالصعيد، والقصير بالبحر الأحمر. يترامى إلى سمعك وأنت على الطريق إلى المنجم صدى الأغانى التى كان ينشدها الحجاج، لتقصير المسافة للوصول إلى شاطئ البحر. كأن الجبال مازالت تردد صداها، فلم يكن من قبيل المصادفة أن يؤكد لنا السكان أن إطلاق اسم «القصير» على المدينة المطلة على البحر الأحمر إنما يرجع إلى أنها أقصر مسافة تربط بين الصعيد والبحر الأحمر، ففى الماضى كانت الطريق الوحيد الذى يربط بين النيل والبحر الأحمر فى الجهة الشرقية.


دخلنا من بوابة المنجم الحديدية، التى أصابها الهلاك، فلا تكفى إلا لعبور سيارة واحدة. بابتسامة رقيقة رحب بنا العاملون فى المنجم وفى أعينهم نظرة ثقة تدرك حجم المسؤولية التى تتحملها. سارع كل منهم بالحديث بإسهاب عن منجم الفواخير والمصنع الملحق به، الذى كان يديره الإنجليز عام 48.


يرجع تاريخ المنجم إلى الفراعنة، فهم أول من أعد خريطة جيولوجية للمنطقة، فيها وصف لكل الثروات المعدنية المتوافرة بها ولمنجم الفواخير والبئر الملحقة به، التى كانت المصدر الوحيد للماء بالمنطقة، واستقرت الخريطة «البردية» الأصلية عن المنطقة والمنجم فى معرض تورين بشمال إيطاليا.


وحسب رواية عبدالجواد سلامة، جيولوجى بالمنجم، فإن البردية الفرعونية هى أول خريطة جيولوجية لمصر، ترجع إلى عهد سيتى الأول عام 1200 قبل الميلاد، وكان هناك اهتمام خاص بإنتاج المعدن الأصفر لقيمته، فضلاً عن استخدامه فى نحت التماثيل الذهبية.


جاء الإنجليز إلى المنطقة عام 1948، للبحث والتنقيب عن الذهب، وأظهرت البحوث أن المنطقة غنية بالذهب، وهو ما كان الدافع لهم لتأسيس مصنع كامل، معتمد على آلات إنجليزية وألمانية لاستخراج الذهب. ووقعت مسؤولية إدارة المصنع على «الكونت»، وهو رجل إنجليزى صميم، أحمر الوجه، قصير القامة، صارم المعالم طبقاً لوصف عم فراج، أقدم سكان المنطقة، أحد أبناء العاملين فى المصنع الإنجليزى.


تم تأسيس شركة «مناجم البحر الأحمر» بأغلبية مساهمين من الإنجليز لاستخراج الذهب، حسب رواية عبدالجواد سلامة، جيولوجى المنجم، الذى أضاف أن الملك فاروق كان شريكا فيها!!


تبلغ مساحة المبانى فقط نحو 100 ألف متر مربع، وبجانب المدخل جهة اليسار قاعة كبيرة خلفها مخزنان كبيران، أحدهما لقطع غيار المصنع والآخر لماكينات الكهرباء.


تمتلئ المخازن بقطع غيار تغطى احتياجات عدة سنوات ومازالت محتفظة بالشحوم، وهى مقسمة على عدة أرفف، تتدلى من كل رف ورقة توضح قطعة الغيار ورقمها وبأى آلة تختص، إلى جانب ورقة أخرى صغيرة تضم الرقم المسجل به قطع الغيار فى سجلات هيئة الثروة المعدنية، لأنها «عهدة» على أمين المخزن.


ملاحظة ذكية أبداها الجيولوجى هى أن الإنجليز لو كانوا يعلمون بما سيواجهه المنجم من تأميم عقب ثورة يوليو، لما قاموا بتشغيله واستيراد هذه الكميات الكبيرة من قطع الغيار التى تضمن عدم تعطل الإنتاج فى منجم الذهب.


خلف باب المخزن مباشرة مكتب أمين المخازن بنفس المكان دون أى تعديل منذ عهد إدارة الإنجليز. يوحى تصميمه بالجدية، يخلو من كل المظاهر الديكورية، مكتب بسيط مصنوع من خشب مصقول مازال بحالته، لم يشهد إلا تغييراً بسيطاً فى لونه، خلفه كرسى خشبى، قاعدته مكونة من أعواد الخشب المتراصة، لا يعطى شعوراً بالراحة لمن يجلس عليه، ليؤكد لصاحبه أن مكانه الحقيقى حيث متابعة حركة الخروج والدخول لقطع الغيار وليس الجلوس على المكتب.


هناك غرفة «المحول»، حيث كان المصنع يعتمد فى إنتاج كهرباء التشغيل على محول كبير «جنيريتور» يعمل بالسولار، ففى الوقت الذى كان فيه معظم محافظات مصر وأحياء كاملة بالعاصمة تعتمد على استخدام لمبات الجاز، كان المحول الإنجليزى يدير ماكينات المصنع ويضىء مساكن العمال والمهندسين الملحقة به، فضلاً عن منزل «الكونت»، الذى يقع على مسافة 3 كيلومترات بجوار المنجم.


ويقول العاملون إن وزارة الكهرباء طلبت مؤخراً الحصول على المحول، لأنه أصبح أثرياً ولابد من الحفاظ عليه فى أحد المتاحف.


فى غرفة المحول التراب يغطى كل جزء من الأرض والجدران، وجميع الماكينات، وفى صندوق خشبى ذى صنعة مميزة، تبدو من إحكام إغلاقه توجد أزرار التشغيل، التى تترك لديك شعوراً بأنك لو اتخذت قراراً بالضغط عليها، ستعمل الماكينات على الفور. على الجهة المقابلة خزانان للسولار، لإمداد المحول بالوقود بصفة دورية.


اعتمد الإنجليز على استخراج الذهب من خلال الاستدلال عليه بالخريطة الفرعونية، وتم الحفر فى جبل الفواخير، بحيث يمتد النفق الرئيسى للمنجم نحو 500 متر تحت سطح الأرض، ويتفرع عنه 5 أنفاق فى اتجاهات مختلفة، متتبعة عروق الذهب «الكوارتز»، واعتمدوا على أنه تم إمداد خطوط سكك حديد صغيرة «ديكوفيل»، لتنقل ما يخرج من باطن الأرض إلى ماكينة طحن الحجارة، التى مازالت تقف أمام فوهة النفق بالفواخير، لكن يعلوها الصدأ، وتم فك بعض المسامير الحديدية عنها، وهو ما ساهم فى تفككها، لكنها تبدو قابلة للإصلاح بسهولة، تتحول بعدها الصخور الجامدة إلى أحجار صغيرة الحجم وأتربة ناعمة. يتم التخلص من السكة الأولى، ليتم نقل الأتربة المحملة بالذهب عبر خطوط سكك حديد أخرى «ديكوفيل»، مازالت موجودة لمسافة نحو كيلومتر، ليتم غسلها بالماء لفصل الذهب، وتدخل بعدها إلى أحواض السيانيد لتتم عملية الفصل النهائية لاستخلاص الذهب الخام، لتدخل بعدها إلى عمليات الصهر والصب فى قوالب لتحويلها إلى سبائك.. فى هذه المرحلة الحيوية تجد المكتب الخاص بـ«الكونت» بواجهة كاملة من الزجاج الشفاف، تطل على المرحلة الأخطر فى استخراج الذهب، ولم يكن اختياره لهذا الموقع من قبيل المصادفة، ولكن ليسجل الكميات المستخرجة أولاً بأول فى أوراق المصنع، والتى مازالت موجودة ومكتوبة بخط يده فى أدراج المكتب. بتصريح سابق من هيئة الثروة المعدنية، دخلنا مكتب «الكونت»، حيث يسد بابه عدد من الأقفال، يقبع فيه مكتب خشبى متوسط الحجم، ذو أربعة أدراج، خلفه كرسى خشبى ليس بالوثير، فى الدرج الأول على يسار الكرسى تقبع سجلات المصنع مكتوبة بالقلم الرصاص بخط واضح، لم يفلح مرور السنوات فى محوه، مدونة فيها كميات الإنتاج اليومى من الذهب إلى جانب بعض الملاحظات حول عدد التشغيلات فى المصنع، وفى الدرج الآخر استمارات فارغة تنتظر ملأها بالبيانات عن العمل اليومى فى المصنع، وعند خروجنا من باب المكتب لاستكمال معرفة مراحل الإنتاج والعمل فى المصنع، سارع أحد مسؤولى المصنع بإغلاق المكتب مجدداً والتأكد من إحكام غلقه.


ملحقات المصنع


لم تقتصر المبانى الموجودة فى محيط المنجم على المصنع ومخازن قطع الغيار ومساكن المهندسين والعمال، فعلى مسافة تصل لنحو مائتى متر يمين البوابة الرئيسية لدخول المنجم توجد كنيسة صغيرة يعلوها صليب، حرصت الإدارة الإنجليزية على اختيار موقعها لتكون فى الطريق بين المصنع ومساكن العاملين، ورغم أنها صغيرة الحجم، لكن هناك خصوصية تحيط بها كما هو الحال فى دور العبادة، وقد تم تسجيلها مؤخراً ضمن أملاك «الكاتدرائية»، التى تشرف عليها حالياً.


خلف الكنيسة تقع مساكن إقامة العاملين، التى تم بناؤها باستخدام الحجارة المتوافرة بالمنطقة، لتعزل حرارة الصحراء عنهم، حيث تتخطى الحرارة الأربعين فى أيام الصيف. تضم الغرف أَسرَّة، وتتوافر بها خدمات المياه والصرف الصحى والإضاءة. وإلى جانبها معمل متطور لاختبار الذهب بمعايير هذا العصر.


بيت الكونت


فى الجهة المقابلة للمنجم على مسافة 3 كيلومترات، يوجد بيت «الكونت» قرب بئر مياه كانت المصدر الأساسى للمياه اللازمة لتشغيل المنجم لاحتياجات العاملين. كان الرجل حريصاً على إقامة منزلين، الأول شتوى ناحية الغرب والآخر صيفى جهة الشرق.


إحدى علامات المنطقة «عم فراج». رجل شديد سواد اللون، تجاوز السبعين من عمره، ومع هذا تلمع عيناه وكأنه شاب فى العشرين.


تحاول الحداثة التى اقتحمت المكان برموزها: علب الكانز وعلب التونة أن تجد لنفسها مكاناً، لكن عم فرج يقول: «التطور اللى بجد إننا نرجع نشغل المنجم ده بإيدنا ويبقى خيره لولادنا».

اصدقائي في العالم