الخميس، 4 نوفمبر 2010

الرئيس المختار للشعب المختار

الرئيس المختار للشعب المختار







بقلم / عبدالحليم قنديل




حين يصف صفوت الشريف حسنى مبارك بأنه "أسطورة لا تتكرر"، فربما لايكون من رد يقبل النشر فى الصحف المهذبة ، وربما لاتكون فى حاجة إلى عقلك ، فلا فرق ـ عندها ـ بين العقل والحذاء ، ولا معنى لألفاظ اللغة ، ولا للقواميس ، ولا للذكريات ، ولا للحس الآدمى من أصله (!) .

فقد تجاوز الأمر حاجز النفاق المزاد المنقح ، وتحول إلى مسخرة مفزعة ، وإلى كوميديا سوداء ، وإلى كوابيس لم ترد فى بال ، ولا خطرت على خيال مصر التى فى خاطرنا .

والرجل ـ صفوت الشريف ـ مشهور بنكات غليظة من هذا النوع ، ومنذ بدأ اسمه فى الظهور فى تحقيقات قضية المخابرات الكبرى بعد هزيمة 1967 ، وباسمه الحركى المسئول عن القصص إياها ، وبتفاصيل محظورة النشر لأنها لا تشرف أحدا ، ثم جاء به السادات من مخزن العزلة ، وصار خادما للرئيس مبارك فى شئون المخفى والظاهر ، وتحول إلى حامل ميكروفون على طريقة المنادى فى أفراح الريف ، والتى يصبح فيها الشحاذ "باشا"، والعروس الدميمة "سندريلا"، ويصبح عهد مبارك ـ على طريقة صفوت الشريف ـ "أزهى عصور الحرية والديمقراطية" (!) ، هكذا مرة واحدة ، وكأن الرجل لم يسمع خبرا من طرف ما يجرى ، ولا وصله بريد مصر المدهوسة المهروسة بقانون الطوارئ والأحكام العرفية لثلاثين سنة خلت (!) .

وربما لايكون مجديا أن نتوقف عند كلام صفوت الشريف ، فالرجل لا يجف حلقه ، ولا يتوقف عن كلام ، ولا عن نفاق عبثى خارق للتوقعات ، إلا أن يأذن ربك ، أو أن تغلق حنفية الست "سنية"، وتتعطل هيئة الصرف الصحى .

وعلى أى حال ، فقد لايصح أن نظلم صفوت الشريف بأكثر من اللازم ، فقد بدا فى دور "عبد المأمور" ، بدا سعيدا جدا بتقمص الدور ، وإن أضفى عليه مبالغاته المسرحية المثيرة للسخرية التلقائية حينا ، وللشفقة العقلية فى أغلب الأحيان ، لكن شطحاته بدت ـ على أى حال ـ نوعا من التنفيذ لتعميم رسمى ، سبقه إليه موظفون آخرون ، كل بحسب مواهبه ، فقد قال أحمد نظيف رئيس الوزراء ـ هو الآخر ـ أن مبارك بلا بديل ، وإن نسى نظيف شيئا بسيطا ، وهو أن يحدد الجهة التى لا تقبل بغير مبارك بديلا ، ربما لأن إسرائيل هى التى تذكرت ، وعلى لسان بنيامين بن أليعازر قاتل الآلاف من الأسرى المصريين ، قال بن أليعازر عن مبارك أنه "كنز استراتيجى لإسرائيل"، أى أن كنز إسرائيل هو نفسه أسطورة صفوت الشريف ، وهو ذاته ـ بشحمه ولحمه ـ بديل نظيف الذى لابديل سواه .

ويبدو أن حسنى مبارك نفسه دخل على خط المزايدة مع الشريف ونظيف وبن أليعازر ، وقفز بالقصة كلها إلى مستويات إلهية لا معقب عليها ، فهو يعتقد ـ على ما يبدو ـ أن الله قد اختاره رئيسا ، وربما لخدمة الشعب المختار (!)، فلا تزال أصداء تصريحات مبارك الإيطالية تذهل المصريين ، فقد سألوه فى مؤتمر صحفى مشترك مع بيرلسكونى عن مصير الرئاسة فى مصر ، سألوه : هل سترشح نفسك فى الانتخابات الرئاسية المقبلة ؟، كان جوابه "ربما ..الله وحده يعلم"، وسألوه : من تفضل أن يكون خليفتك ؟، حينها بدا أن الرجل لا يتذكر عبارة أخرى ، وأعاد نفس الجواب "ربما .. الله وحده يعلم"، ثم نظر إلى السماء ، وكأنه يستمطر الوحى ، وعاد إلى المؤتمر الصحفى الأرضى بالعبارة التى ذهبت مثلا ، وقال ببساطة "أفضل ما يفضله الله"(!).

والقصة أبعد من التحليل النفسى لكلام الرئيس ، فالرجل ـ على ما يبدو ـ يشعر بثقل العمر ودنو الأجل ، ثمانينياته مرهقة ، وحالته الصحية غامت حقائقها ، وعذاب الأقدار يؤرق الكبار ، وولعه بالبقاء فى القصر حتى باب القبر يبدو ظاهرا ، وكما يتعلق الطفل بلعبة تهالكت ، فإن مبارك يبدو كغريق يتعلق بزبد النجاة المراوغ ، ولا يجد من فرصة سوى البقاء فوق رقابنا ، أو أن يشدنا معه إلى القاع الذى ليس بعده قاع ، ولا ذنب له فى ظنه ، فهذه إرادة الله وليست إرادة سيادته ، والرجل يحكمنا بالحق الإلهى الذى لاحيلة له فيه (!).

ومن الخطأ أن نفسر كلام مبارك بغير مغزاه الناطق ، أو أن نظن به الظنون الدينية ، فلا يعقل أن يكون الرجل فى نوبة دروشة ، أو أن يكون تحول ـ فجأة ـ إلى واحد من أولياء الله الصالحين ، ولو كان كذلك لتخلى عن الحكم ، وهو لن يفعل ، وكلامه مجرد حيلة "فلاحية" للهروب من الأسئلة المحرجة ، وقد وضع اسم الله ـ سبحانه وتعالى ـ فى غير موضعه ، وقصد أن يقول ـ من وراء الحجاب الدينى ـ شيئا بالغ التحديد ، وهو أنه لايريد خليفة ولا يحزنون ، وأنه ينوى ـ قطعا ـ أن يظل فى رئاسة مصر لفترة سادسة ، وإن كان لايثق تماما فى جدوى عمليات الترميم الصحى ، وقد أفلتت من فمه عبارة تلقائية موحية فى المؤتمر الصحفى الإيطالى نفسه ، فحين تحدث بيرلسكونى ـ رئيس الوزراء الإيطالى ـ عن مشروع إنشاء جامعة إيطالية فى مصر ، كان تعليق مبارك التلقائى صريحا ، وقاطع مضيفه مضيفا " على أن يكون ذلك قبل سنة 2017 "، والمعنى مفهوم ، فالمعروف أن الرئاسة السادسة تبدأ فى نهاية 2011 ، وتنتهى بنهاية 2017 ، وهذه إجابة بشرية وليست إلهية هذه المرة ، فالرجل لا يدارى رغبته ، وربما قراره ، ويطمع بالبقاء فى الرئاسة إلى أن تقول الأقدار كلمتها الأخيرة .

وكما أن تجريد تصريحات مبارك من مسوحها الدينية يشى بالحقيقة ، فإن تجريد تصريحات الشريف ونظيف من المبالغات الفجة يشى بالحقيقة نفسها ، وهى أن جماعة الحكم حسمت اختيارها لصالح ترشيح مبارك مجددا ، وإغلاق ملف التوريث الرسمى لنجله جمال مبارك .

وهذه الحقيقة الباردة عمرها شهور ، وبالذات منذ أواخر أغسطس 2009 ، وبعد عودة الرئيس الأب من زيارته الأخيرة لواشنطن ، وهى التى توازت مع زيارة لجمال مبارك فى الوقت نفسه ، وبدا الأمر سباقا على كسب أوراق الاعتماد الرئاسى من البيت الأبيض ، وقتها عاد مبارك إلى القاهرة ، وقد حسم أمره ، وألغى تجهيزات كانت جارية لحل مجلس الشعب قبل موعده بسنة ، وبدأب وإصرار من جمال مبارك وصحبه فى جماعة البيزنس ، فقد كانوا يسعون إلى حل المجلس للتبكير بجداول الزمن الحرج ، والتعجيل بمواعيد نقل الرئاسة ، ثم بدا الرئيس العجوز مصمما على كسب المزيد من ثقة جماعة الأمن ، وكثف زياراته لوحدات الجيش ، وأكثر من زياراته لمحافظات الوادى البعيدة عن سكنه المفضل فى منتجع شرم الشيخ ، وبدا الإرهاق الصحى ظاهرا ، ووجد أطباؤه أن لاحل سوى إرساله لألمانيا ، ظل هناك لأسابيع ، وأصدر قرارا صوريا بنقل مهام الرئاسة مؤقتا إلى أحمد نظيف رئيس مجلس الوزراء ، لكن الأخير لم يصدر قرارا جمهوريا واحدا ، وبدا امتناعه عن حمل مهام الرئاسة جبرا لا اختيارا ، فقد فرضت جماعة الأمن أمرها ، وكان الخيار للاستقرار ، فجماعة الأمن لا تثق بجمال مبارك ، ولا تستريح إلى مماليكه الجدد ، وتفضل إجراء الترتيبات الازمة مع الرئيس الأب ، فهو ابن المؤسسة ، والتى انتقلت إليها كافة الملفات الحساسة ، وبالذات ملف العلاقة مع إسرائيل التى حسمت اختيارها لصالح مبارك "كنزها الاستراتيجى"، والباقى تفاصيل وسيناريوهات تبادلية ، فإما أن يخطو مبارك إلى موعد الرئاسة ويتخطاه ، وإما أن تكون المفاجأة بحكم الأقدار وتبديل الصور .

وربما لا تعليق سوى أنهم يمكرون ويمكر الله ، والله خير الماكرين .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اصدقائي في العالم